مهند كان يتمنى أن يصبح طبيباً -- خلال الانتفاضة تمنى أن يكون صحفياً
..ورصاص الاحتلال الصهيوني جعله شهيداً - غزة-خاص: على أحد جدران منزله
وبالتحديد على الجدار الذي ينام مهند بجواره تصطف عشرات الصور لشهداء
فلسطينيين سقطوا خلال انتفاضة الأقصى:حاتم النجار وأحمد دحلان وإبراهيم
القصاص وإيمان حجو ومحمد الطويل وحافظ صبح وعبد المعطي العصار ...وغيرهم
الكثير من أصحاب الصور التي كان مهند يحرص على اقتنائها ولصقها بجوار
بعضها البعض. لم يكن مهند يعلم بأن صورته ستنضم لصور هؤلاء الشهداء الذين
اعتز بهم واهتم بأن يكون إلى جوارهم لحظة خلوده للنوم.
مهند الطفل الفلسطيني الخجول إبن الأحد عشر ربيعاً أردته رصاصات الاحتلال
الصهيوني قتيلاً بينما كان يشارك في تشييع جثمان الشهيد ماضي خليل ماضي
بتاريخ 23/4/2001. سقط مهند على أرض المقبرة في خانيونس بعد أن أصابته
رصاصة أطلقها جندي إرهابي صهيوني بلا مبرر على المشاركين في الجنازة.
للتعرف على مهند سماته وصفاته وكيفية استشهاده، كان لنا هذا الحديث مع عدد
من أفراد عائلته: صباح استشهاده بدا مختلفاً: "يوم استشهاده استيقظ مهند
باكراً و حادثه أخوه قائلاً "لا يوجد دوام في مدرستنا اليوم ، الأساتذة
سيتوجهون للمشاركة في جنازة الشهيد ماضي خليل ماضي ، أما مدرستكم فلن
يتعطل فيها الدوام لأنه مسائي". "مهند لم يرد على كلمات شقيقه و نظر إليه
وظل صامتاً ثم قام كعادته وبدأ يرتب الأسرّة في حجرته ثم انطلق ليحضر
الفطور لجده ثم تناول معه لقيمات قليلة وكان على غير عادته مسرعاً، بدا
عليه وكأنه متلهف لفعل أمر ما يضمره في نفسه . حمل حقيبته وتوجه للمدرسة
ولكنه لم يعد". بهذه الكلمات بدأت والدة الشهيد مهند حديثها معنا ، صمتت
قليلاً ثم عادت ثانية للحديث فقالت "لم أعتقد ولو للحظة بأنه سيشارك في
الجنازة لأن دوامه في المدرسة مسائي والمدارس المسائية عادة لا تشارك في
الجنازات . أرسل مهند حقيبته مع أخيه الصغير وتوجه مع رفاقه للمشاركة في
الجنازة". لم يخطر ببالي أنه استشهد: وتواصل الأم حديثها "علمت أن مهنداً
أصيب من زوجة عمه التي علمت بذلك عبر اتصال هاتفي تلقته من إبنها حمزة
الذي كان برفقة مهند.. توجهت فوراً للمستشفى وبمجرد وصولي سمعتهم يقولون
هناك شهيد و13 مصابا و لم يخطر ببالي ولا للحظة واحدة بأن مهنداً ابني هو
الشهيد". وتتابع الأم "شاهدت عدداً من الممرضين يدفعون أمامهم عربة وعليها
جسد ملفوف بالأبيض ، لست أدري لماذا اتجهت وراءهم رغم أنني لم أر وجه
الشخص النائم لكن شيئاً ما دفعني لللحاق بهم . كنت أعتقد أنهم يتجهون نحو
غرفة العناية المركزة أو العمليات وبعد لحظات اكتشفت أنهم يتجهون نحو
الثلاجة رأيته وعلمت أنه الشهيد". كان مطيعا و متفوقا و محبوب من
الأساتذة: وبسؤالها عن صفات مهند وأحلامه زفرت الأم نفساً طويلاً قبل أن
تقول "مهند كان طفلاً عمره لا يتجاوز الـ 11 عاماً و كان مطيعاً خجولاً
وذا شخصية قوية يساعدني دائماً في ترتيب الأسرة والمنزل وكان كل صباح يقول
لي "إذهبي أنت لتجهزي الفطور وأنا سأرتب الغرف" كما كان متفوقاً في مدرسته
محبوباً بين زملائه وأساتذته . كان يتولى مسئولية الإشراف على 5 طلبة من
الطلبة الضعاف دراسياً". وأضافت الأم وهي تضرب بيدها الطاولة التي كنا
نجلس ملتفين حولها والدموع تملأ عينيها "كان يجلس هنا على هذه الطاولة يعد
لهم التمارين والأسئلة .. أراه أمامي وأسمع صوته وهو يقول لي: أريد أن
يكونوا كلهم ممتازين مثلي ليحبهم الأساتذة كما يحبونني"، نهضت الأم من
مقعدها و توجهت تجاه التلفاز ومن فوقه التقطت صورة إبنها الشهيد ، أعطتني
إياها وهي تشير لكلمات كتبها خلف الصورة أحد أساتذة مهند كانت الكلمات
كالتالي "من أحسن الطلاب، من الطلاب الأذكياء، من الطلاب الأوفياء، من
الطلاب الكرماء، من الطلاب المحبوبين، الطفل الشهيد مهند نزار محارب".
خلال الانتفاضة تبدلت طموحاته: وعن طموحات مهند قالت الأم: "كان يحلم أن
يكون طبيباً لكنه خلال الانتفاضة تغير وأصبح يتمنى أن يكون صحافياً".
الصحفي عبد ربه شناعة رآه قبل استشهاده بلحظات في جنازة الشهيد ماضي وقد
أخبرنا بأن مهنداً طلب منه السماح له بحمل الكاميرا قائلاً " أرجوك أعطني
الكاميرا . إسمح لي أن أحملها قليلا أتمنى أن أصبح صحفيا مثلك". طيبته بلا
حدود: بدوره تحدث الأخ الأكبر للشهيد عن ذكرياته عنه فقال: كانت علاقتنا
قوية جداً . اعتدنا أن نلعب سوياً كل ليلة .أما يوم الخميس فكان مميزاً
لدينا حيث اعتدنا أن يجتمع كل أبناء العائلة نجلس معاً نلعب ونذهب للتنزه،
كنت أحاول كل ليلة استفزازه محاولاً أن أثير انتباهه لكنه لم يكن يحب
المشاكل كان يرد على استفزازي بالقول "ابتعد عني .. دعني"، ورغم أنني كنت
أحياناً أمازحه فأضايقه إلا أنه كان يلبي كل طلباتي دون تردد ودون أن يبدي
أي انزعاج .. نظر الفتى إلى الأرض صمت لحظة ثم أضاف: مهند كان طيبا لأبعد
الحدود. وعن يوم استشهاده يقول الأخ: كنت في إحدى السيارات المتوجهة نحو
منزل الشهيد ماضي عندما جاء مهند برفقة ابن عمي حمزة و أخرج من جيبه صورة
للشهيد ماضي وقال لي "أحضرت لك صورة الشهيد كي تحملها خلال الجنازة خذها
ودعنا نركب معك السيارة". رفضت لأنني كنت خائفاً عليه و صرخت في وجهه
وضربته بيدي على رأسه وقلت عد للمنزل مع حمزة ولم أكن أعلم أنه لن يفعل ما
طلبته منه. أتذكره وأتمنى أن يعود: وعن لحظات إصابته وما قبل استشهاده بدا
حمزة ابن عم مهند -11 عاما- أكبر من عمره الحقيقي وهو يحادثنا بثبات وثقة
مشوبان بحزن دفين قائلاً "خرجنا من المدرسة سوية مع المسيرة المتجهة
للمشاركة في الجنازة توجهنا للجامع وهناك صلينا وأخذنا صور الشهيد من أحد
الشباب ثم توجهنا للمقبرة و قرأنا الفاتحة على الشهيد وبينما كان أحد
الشيوخ يلقي خطبته سمعنا صوت رصاص كنا بين القبور انحنينا للأسفل بجوار
أحدها وعندها أصابت مهند إحدى الرصاصات برأسه"، ويتابع حمزة: "صرخ مهند
إلحقني يا حمزة لقد أصابوني.. كنت خائفاً لم أعرف ماذا أفعل فركضت تجاه
بعض الرجال وقلت لهم ابن عمي أصيب ذهبوا إليه وحملوه وتوجهوا نحو المستشفى
و لحقت بهم وهناك عرفت أن حالة مهند خطيرة فعدت لمنزل جدتي واتصلت بأمي
وأخبرتها". وعن ذكرياته مع ابن عمه الذي يشاركه المقعد ذاته في الصف نفسه
قال حمزة " أتذكره دائماً وأتمنى أن يعود . كان دائماً يحدثني عن الشهداء
وعن سعادة الشهيد الذي يموت مجاهداً في سبيل الحق وكنا ندخر النقود لنشترك
في ثمن دراجة نشتريها معاً . أذكره حيث كنا نخرج معاً كل يوم لنجمع علب
النحاس والحديد ونبيعها ليساعدنا ثمنها في توفير ثمن الدراجة!" سقط مهند
شهيداً ، قتلوه بلا رحمة رغم أنه لم يرتكب أي إثم بحقهم لم يهدد أمنهم ولم
تشكل سنوات عمره الإحدى عشرة أي خطر عليهم ، هم قتلوا مهنداً ، قتلوا
طفولته التي حالت دون استيعابه لحقدهم وعنصريتهم ، قتلوا براءته التي
تجسدت في حلمه وآماله فلم يتمكن من أن يجعل من الطلبة الضعاف الذين كان
يشرف عليهم ممتازين مثله ، ولم يشتر الدراجة التي كان يحلم بها مع ابن عمه
حمزة ولم يحقق طموحه في أن يكون صحافياً ..فقتلة الأطفال من المحتلين
الصهاينة لم تمهله كما لم تمهل الكثيرين من أطفال فلسطين الوقت الكافي
لتحقيق أحلامهم، ورغم أن مهنداً سقط إلا أن طموحاته وأحلامه باقية في
أذهان وقلوب رفاقه الذين شاركوه إياها وسيسعون رغم أنف الاحتلال نحو
تحقيقها.